فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِيوْمِ القيامة}
قيل: إن (لا) صلة، وجاز وقوعها في أوّل السورة؛ لأن القرآن متصل بعضه ببعض، فهو في حكم كلام واحد؛ ولهذا قد يذكر الشيء في سورة ويجيء جوابه في سورة أخرى؛ كقوله تعالى: {وقالواْ يا أيها الذي نُزِّل عليْهِ الذكر إِنّك لمجْنُونٌ} [الحجر: 15] وجوابه في سورة أخرى: {مآ أنت بِنِعْمةِ ربِّك بِمجْنُونٍ} [القلم: 2] ومعنى الكلام: أقسم بيوم القيامة؛ قاله ابن عباس وابن جبير وأبو عبيدة؛ ومثله قول الشاعر:
تذكّرتُ ليْلى فاعترتنِي صبابةٌ ** فكاد صِمِيمُ القلبِ لا يتقطّعُ

وحكى أبو الليث السّمرقنديّ: أجمع المفسرون أن معنى {لا أقْسِمُ}: أقسم.
واختلفوا في تفسير (لا) قال بعضهم: (لا) زيادة في الكلام للزينة، ويجري في كلام العرب زيادة (لا) كما قال في آية أخرى: {قال ما منعك ألاّ تسْجُد} [الأعراف: 12] يعني أن تسجد، وقال بعضهم: (لا): ردٌّ لكلامهم حيث أنكروا البعث، فقال: ليس الأمر كما زعمتم.
قلت: وهذا قول الفرّاء؛ قال الفرّاء: وكثير من النحويين يقولون (لا) صلة، ولا يجوز أن يُبدأ بجحد ثم يُجعل صلة؛ لأن هذا لو كان كذلك لم يعرف خبر فيه جحد من خبر لا جحد فيه، ولكن القرآن جاء بالرد على الذين أنكروا البعث والجنة والنار، فجاء الإقسام بالردّ عليهم في كثير من الكلام المبتدأ منه وغير المبتدأ وذلك كقولهم لا والله لا أفعل ف (لا) ردٌّ لكلام قد مضى، وذلك كقولك: لا والله إن القيامة لحقّ، كأنك أكذبت قوما أنكروه.
وأنشد غير الفرّاء لامرئ القيس:
فلا وأبِيكِ ابنة العامِرِيِّ ** لا يدّعِي القومُ أنِّي أفِرّ

وقال غُويّة بن سلمى:
ألا نادتْ أمامةُ باحتمال ** لتِحزُننِي فلا بِكِ ما أبالِي

وفائدتها توكيد القسم في الردّ.
قال الفرّاء: وكان من لا يعرف هذه الجهة يقرأ {لأقِسمُ} بغير ألف؛ كأنه لام تأكيد دخلت على أقسم، وهو صواب؛ لأن العرب تقول: لأقسم بالله وهي قراءة الحسن وابن كثير والزهريّ وابن هُرْمز {بِيوْمِ القيامة} أي بيوم يقوم الناس فيه لربهم، ولله عز وجل أن يقسم بما شاء.
{ولا أُقْسِمُ بالنفس اللوامة} لا خلاف في هذا بين القراء، وهو أنه أقسم سبحانه بيوم القيامة تعظيما لشأنه ولم يقسم بالنفس.
وعلى قراءة ابن كثير أقسم بالأولى ولم يقسم بالثانية.
وقيل: {ولا أُقْسِمُ بالنفس اللوامة} ردّ آخر وابتداء قسم بالنفس اللوامة.
قال الثعلبيّ: والصحيح أنه أقسم بهما جميعا.
ومعنى: {بالنّفْسِ الّلّوامةِ} أي بنفس المؤمن الذي لا تراه إلا يلوم نفسه، يقول: ما أردتُ بكذا؟ فلا تراه إلا وهو يعاتب نفسه؛ قاله ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم.
قال الحسن: هي والله نفس المؤمن، ما يُرى المؤمن إلا يلوم نفسه: ما أردتُ بكلامي؟ ما أردتُ بأكلي؟ ما أردتُ بحديث نفسي؟ والفاجر لا يحاسب نفسه.
وقال مجاهد: هي التي تلوم على ما فات وتندم، فتلوم نفسها على الشر لِم فعلته، وعلى الخير لم لا تستكثر منه.
وقيل: إنها ذات اللوم.
وقيل: إنها تلوم نفسها بما تلوم عليه غيرها؛ فعلى هذه الوجوه تكون اللوّامة بمعنى اللائمة، وهو صفة مدح؛ وعلى هذا يجيء القسم بها سائغا حسنا.
وفي بعض التفسير: إِنه آدم عليه السلام لم يزل لائما لنفسه على معصيته التي أُخرج بها من الجنة.
وقيل: اللوّامة بمعنى الملُومة المذمومة عن ابن عباس أيضا فهي صفة ذمّ وهو قول من نفى أن يكون قسما؛ إذ ليس للعاصي خطر يُقْسم به، فهي كثيرة اللوم.
وقال مقاتل: هي نفس الكافر يلوم نفسه، ويتحسّر في الآخرة على ما فرّط في جنب الله.
وقال الفراء: ليس من نفس محسنة أو مسيئة إلا وهي تلوم نفسها؛ فالمحسن يلوم نفسه أن لو كان ازداد إحسانا والمسيء يلوم نفسه ألا يكون ارعوى عن إساءته.
قوله تعالى: {أيحسب الإنسان ألّن نّجْمع عظامه} فنعيدها خلقا جديدا بعد أن صارت رُفاتا.
قال الزجاج: أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوّامة: ليجمعن العظام للبعث، فهذا جواب القسم.
وقال النحاس: جواب القسم محذوف أي لتبعثنّ؛ ودلّ عليه قوله تعالى: {أيحسب الإنسان ألّن نّجْمع عظامه} لِلإحياء والبعث.
والإنسان هنا الكافر المكذّب للبعث.
الآية نزلت في عديّ بن ربيعة قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: حدّثني عن يوم القيامة متى تكون، وكيف أمرها وحالها؟ فأخبره النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك؛ فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أومن به، أو يجمع الله العظام؟! ولهذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهمّ اكفني جاريِ السُّوءِ عديّ بن ربيعة، والأخنس بن شرِيق» وقيل: نزلت في عدوّ الله أبي جهل حين أنكر البعث بعد الموت.
وذكر العظام والمراد نفسه كلها؛ لأن العظام قالب الخلْق.
{بلى} وقف حسن ثم تبتديء {قادِرِين}.
قال سيبويه: على معنى نجمعها قادرين، ف {قادِرِين} حال من الفاعل المضمر في الفعل المحذوف على ما ذكرناه من التقدير.
وقيل: المعنى بلى نقدر قادرين.
قال الفراء: {قادِرِين} نصب على الخروج من {نجْمع} أي نقدر ونقوى {قادِرِين} على أكثر من ذلك.
وقال أيضا: يصلح نصبه على التكرير أي {بلى} فليحسبنا قادرين.
وقيل: المضمر (كنا) أي كنا قادرين في الابتداء، وقد اعترف به المشركون.
وقرأ ابن أبي عبْلة وابن السّميْقع {بلى قادرون} بتأويل نحن قادرون.
{على أن نُّسوِّي بنانهُ} البنان عند العرب: الأصابع، واحدها بنانة؛ قال النابغة:
بِمُخضّبٍ رخْصٍ كأنّ بنانهُ ** عنمٌ يكادُ مِن اللّطافةِ يُعْقدُ

وقال عنترة:
وأنّ الموت طوْع يدِي إِذا ما ** وصلْت بنانها بِالهِنْدُوانِيْ

فنبه بالبنان على بقية الأعضاء.
وأيضا فإنها أصغر العظام، فخصّها بالذكر لذلك.
قال القتبيّ والزجاج: وزعموا أن الله لا يبعث الموتى ولا يقدر على جمع العظام؛ فقال الله تعالى: بلى قادرين على أن نعيد السُّلاميّات على صغرها، ونؤلف بينها حتى تستوي، ومن قدر على هذا فهو على جمع الكبار أقدر.
وقال ابن عباس وعامة المفسرين: المعنى: {على أنْ نُسوِّي بنانهُ} أي نجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا كخفّ البعير، أو كحافر الحمار، أو كظلف الخنزير، ولا يمكنه أن يعمل به شيئا، ولكنا فرّقنا أصابعه حتى يأخذ بها ما شاء.
وكان الحسن يقول: جعل لك أصابع فأنت تبسطهنّ، وتقبضهن بهنّ، ولو شاء الله لجمعهنّ فلم تتق الأرض إلا بكفيك.
وقيل: أي نقدر أن نعيد الإنسان في هيئة البهائم، فكيف في صورته التي كان عليها؛ وهو كقوله تعالى: {وما نحْنُ بِمسْبُوقِين على أن نُّبدِّل أمْثالكُمْ ونُنشِئكُمْ فِي ما لا تعْلمُون} [الواقعة: 60-61].
قلت: والتأويل الأوّل أشبه بمساق الآية.
والله أعلم.
قوله تعالى: {بلْ يريد الإنسان ليفجر أمامهُ} قال ابن عباس: يعني الكافر يكذّب بما أمامه من البعث والحساب.
وقاله عبد الرحمن بن زيد؛ ودليله: {يسْألُ أيّان يوْمُ القيامة} أي يسأل متى يكون! على وجه الإنكار والتكذيب.
فهو لا يقنع بما هو فيه من التكذيب، ولكن يأثم لما بين يديه.
ومما يدل على أن الفجور التكذيب ما ذكره القُتبِيّ وغيره: أن أعرابيّا قصد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وشكا إليه نقْب إبله ودبرها، وسأله أن يحمله على غيرها فلم يحمله؛ فقال الأعرابيّ:
أقْسم بِاللّهِ أبو حفصٍ عُمرْ

ما مسّها مِن نقبٍ ولا دبرْ

فاغفر له اللّهمّ إنْ كان فجرْ

يعني إن كان كذّبني فيما ذكرت.
وعن ابن عباس أيضا: يعجِّل المعصية ويسوِّف التوبة.
وفي بعض الحديث قال: يقول سوف أتوب ولا يتوب؛ فهو قد أخلف فكذب.
وهذا قول مجاهد والحسن وعِكرمة والسّديّ وسعيد بن جبير، يقول: سوف أتوب، سوف أتوب، حتى يأتيه الموت على أشرّ أحواله.
وقال الضحاك: هو الأمل يقول سوف أعيش وأصيب من الدنيا ولا يذكر الموت.
وقيل: أي يعزم على المعصية أبدا وإن كان لا يعيش إلا مدّة قليلة.
فالهاء على هذه الأقوال للإنسان.
وقيل: الهاء ليوم القيامة.
والمعنى بل يريد الإنسان ليكفر بالحق بين يدي يوم القيامة.
والفجور أصله الميل عن الحقّ.
{يسْألُ أيّان يوْمُ القيامة} أي متى يوم القيامة. اهـ.

.قال الألوسي:

{لا أُقْسِمُ بِيوْمِ القيامة}
إدخال لا النافية صورة على فعل القسم مستفيض في كلامهم وإشعارهم قال امرؤ القيس:
لا وأبيك ابنة العامري ** لا يدعي القوم أني أفر

وقول غوية بن سلمى يرثي:
ألا نادت أمامة باحتمال ** لتحزنني فلا يك ما أبالي

وملخص ما ذهب إليه جار الله في ذلك أن لا هذه إذا وقعت في خلال الكلام كقوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون} [النساء: 65] فهي صلة تزاد لتأكيد القسم مثلها في قوله تعالى: {لّئلاّ يعْلم} [الحديد: 29] لتأكيد العلم وأنها إذا وقعت ابتداء كما في هذه السورة وسورة البلد فهي للنفي لأن الصلة إنما تكون في وسط الكلام ووجهه أن إنشاء القسم يتضمن الإخبار عن تعظيم المقسم به فهو نفي لذلك الخبر الضمني على سبيل الكناية والمراد أنه لا يعظم بالقسم لأنه في نفسه عظيم أقسم به أولا ويترقى من هذا التعظيم إلى تأكيد المقسم عليه إذ المبالغة في تعظيم المقسم به تتضمن المبالغة فيه فما يختلج في بعض الخواطر من أنه يلزم أن يكون على هذا إخبارا لا إنشاء فلا يستحق جوابا وأن المعنى على تعظيم المقسم عليه لا المقسم به مدفوع ووراء ذلك أقوال فقيل أنها لنفي الإقسام لوضوح الأمر وقال الفراء لنفي كلام معهود قبل القسم ورده فكأنهم هنا أنكروا البعث فقيل لا أي الأمر كذلك ثم قيل اقسم بيوم القيامة وقدح الإمام فيه بإعادة حرف النفي بعد وقيل أنها ليست لا وإنما اللام أشبعت فتحتها فظهر من ذلك ألف والأصل لأقسم كما قرأ به قنبل وروي عن البزي والحسن وهي لام الابتداء عند بعض والأصل لأنا أقسم وحذف المبتدأ للعلم به ولام التأكيد دخلت على الفعل المضارع كما في {أن ربك ليحكم بينهم} [النحل: 124] والأصل أني لأقسم عند بعض ولام القسم ولم يصحبها نون التوكيد لعدم لزوم ذلك وإما هو أغلبي على ما حكي عن سيبويه مع الاعتماد على المعنى عند آخرين وقال الجمهور أنها صلة واختاره جار الله في المفصل وما ذكر من الاختصاص غير مسلم لأن الزيادة إذا ثبتت في القسم فلا فرق بين الأول الكلام وأوسطه لا أنه مسلم لكن القرآن في حكم سورة واحدة متصل بعضه ببعض لأن كونه كذلك بالنسبة إلى التناقض ونحوه لا بالنسبة إلى مثل هذا الحكم ثم فهم ما ذكره في توجيه النفي من اللفظ بعيد وحال سائر الأقوال غير خفي وقد مر بعض الكلام في ذلك فتذكر.
والكلام في قوله تعالى: {ولا أُقْسِمُ بالنفس اللوامة} على ذلك النمط بيد أنه قيل على قراءة لأقسم فيما قبل أن المراد هنا النفي على معنى أني {لأقسم} بيوم القيامة لشرفه ولا أقسم بالنفس اللوامة لخستها وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة ما يقتضيه وحكاه في (البحر) عن الحسن وقال قتادة في هذه النفس هي الفاجرة الجشعة اللوامة لصاحبها على ما فاته من سعي الدنيا وأغراضها وجاء نحوه في رواية عن ابن عباس والحق أنه تفسير لا يناسب هذا المقام ولذلك قيل هي النفس المتقية التي تلوم النفوس يوم القيامة على تقصيرهن في التقوى والمبالغة بكثرة المفعول وقال مجاهد هي التي تلوم نفسها على ما فات وتندم على الشر لم فعلته وعلى الخير لم لم تستكثر منه فهي لم تزل لائمة وإن اجتهدت في الطاعات فالمبالغة في الكيف باعتبار الدوام وقيل المراد بالنفس اللوامة جنس النفس الشاملة للتقية والفاجرة لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وتلوم نفسها يوم القيامة إن عملت خيرا قالت كيف لم أزد منه وإن عملت شرا قالت ليتني قصرت» وضمها إلى يوم القيامة لأن المقصود من إقامتها مجازاتها وبعثها فيه وضعف بأن هذا القدر من اللوم لا يكون مدارا للإعظام بالإقسام وإن صدر عن النفس المؤمنة المسيئة فكيف من الكافرة المندرجة تحت الجنس وأجيب بأن القسم بها حينئذٍ بقطع النظر عن الصفة والنفس من حيث هي شريفة لأنها الروح التي هي من عظيم أمر الله عز وجل وفيه أنه لا يظهر لذكر الوصف حينئذٍ فائدة والإمام أوقف الخبر على ابن عباس واعترضه بثلاثة أوجه وأجاب عنها بحمل اللوم على تمني الزيادة وتمنى أن لم يكن ما وقع من المعصية واقعا وما ذكر من توجيه الضم لا يخص هذا الوجه كما لا يخفى وقيل المراد بها نفس آدم عليه السلام فإنها لم تزل تلوم نفسها على فعلها الذي خرجت به من الجنة وأكثر الصوفية على أن النفس اللوامة فوق الإمارة وتحت المطمئنة وعرفوا الأمارة بأنها هي التي تميل إلى الطبيعة البدنية وتأمر باللذات والشهوات الحسية وتجذب القلب إلى الجهة السفلية وقالوا هي مأوى الشرور ومنبع الأخلاق الذميمة وعرفوا اللوامة بأنها هي التي تنورت بنور القلب قدر ما تنبهت عن سنة الغفلة فكلما صدر عنها سيئة بحكم جبلتها الظلمانية أخذت تلوم نفسها ونفرت عنها وعرفوا المطمئنة بأنها التي تم تنورها بنور القلب حتى انخلعت عن صفاتها الذميمة وتخلقت بالأخلاق الحميدة وسكنت عن منازعة الطبيعة ومنهم من قال في اللوامة هي المطمئنة اللائمة للنفس الأمارة ومنهم من قال هي فوق المطمئنة وهي التي ترشحت لتأديب غيرها إلى غير ذلك والمشهور عنهم تقسيم مراتب النفس إلى سبع منها هذه الثلاثة وفي سير السلوك إلى ملك الملوك كلام نفيس في ذلك فليراجعه من شاء وجواب القسم ما دل عليه قوله تعالى: {أيحسب الإنسان أن لنْ نّجْمع عظامه} وهو ليبعثن وقيل هو أيحسب إلخ وقيل {بلى قادرين} [القيامة: 4] وكلاهما ليسا بشيء أصلا كزعم عدم الاحتياج إلى جواب لأن المراد نفي الإقسام والمراد بالإنسان الجنس والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والتوبيخ عليه وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف أي أيحسب أن الشأن لن نجمع بعد التفرق عظامه وحاصله لم يكون هذا الحسبان الفارغ عن الأمارة المنافي لحق اليقين وصريحه والنسبة إلى الجنس لأن فيه من يحسب ذلك بل لعله الأكثرون وجوز أن يكون التعريف للعهد والمراد بالإنسان عدي بن أبي ربيعة ختن الأخنس بن شريق وهما اللذان كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيهما «اللهم أكفني جاري السوء» فقد روي أنه جاء إليه عليه الصلاة والسلام فقال يا محمد حدثني عن يوم القيامة متى يكون وكيف يكون أمره فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أؤمن به أو يجمع الله تعالى هذه العظام فنزلت وقيل أبو جهل فقد روي أنه كان يقول أيزعم محمد أن يجمع الله تعالى هذه العظام بعد بلائها وتفرقها فيعيدها خلقا جديدا فنزلت وليس كإرادة الجنس وسبب النزول لا يعينه وذكر العظام وأن المعنى على إعادة الإنسان وجمع أجزائه المتفرقة لما أنها قالب الخلق وقرأ قتادة {تجمع} بالتاء الفوقية مبنيا للمفعول {عظامه} بالرفع على النيابة.
{بلى} أي نجمعها بعد تفرقها ورجوعها رميما ورفاتا في بطون البحار وفسيحات القفار وحيثما كانت حال كوننا {قادرين} فـ: {قادرين} حال من فاعل الفعل المقدر بعد {بلى} وهو قول سيبويه وقيل منصوب على أنه خبر كان أي بلى كنا قادرين في البدء أفلا نقدر في الإعادة وهو كما ترى وقيل انتصب لأنه وقع في موضع نقدر إذ التقدير بلى نقدر فلما وضع موضع الفعل نصب حكاه مكي وقال إنه بعيد من الصواب يلزم عليه نصب قائم في قولك مررت برجل قائم لأنه في موضع يقوم فتأمل وقرأ ابن أبي عبلة وابن السميفع {قادرون} أي نحن قادرون {على أن نُّسوّى بنانهُ} هي اسم جنس جمعي واحده بنانة وفسرها الراغب بالأصابع ثم قال قيل سميت بذلك لأن بها صلاح الأحوال التي يمكن للإنسان أن يبين بها ما يريد أي يقيم غيره بما صغر من عظام الأطراف كاليدين والرجلين وفي (القاموس) البنان الأصابع أو أطرافها فالمعنى نجمع العظام قادرين على تأليف جمعها وإعادتها إلى التركيب الأول وإلى أن نسوي أصابعه التي هي أطرافه وآخر ما يتم به خلقه أو على أن نسوي ونضم سلامياته على صغرها ولطافتها بعضها إلى بعض كما كانت أولا من غير نقصان ولا تفاوت فكيف بكبار العظام وما ليس في الأطراف منها وفي الحال المذكورة أعني قادرين على إلخ بعد الدلالة على التقييد تأكيد لمعنى الفعل لأن الجمع من الأفعال التي لابد فيها من القدرة فإذا قيد بالقدرة البالغة فقد أكد والوجه الأول من المعنى يدل على تصوير الجمع وأنه لا تفاوت بين الإعادة والبدء في الاشتمال على جميع الأجزاء التي كان بها قوام البدن أو كماله والثاني يدل على تحقيق الجمع التام فإنه إذا قدر على جمع الألطف إلا بعد عادة عن الإعادة فعلى جمع غيره أقدر ولعله الأوفق بالمقام ويعلم منهما نكتة تخصيص البنان بالذكر وقيل المعنى بلى نجمعها ونحن قادرون على أن نسوي أصابع يديه ورجليه أن نجعلها مستوية شيئا واحدا كخف البعير وحافر الحمار ولا نفرق بينها فلا يمكنه أن يعمل بها شيئا مما يعمل بأصابعه المفرقة ذات المفاصل والأنامل من فنون الأعمال والبسط والقبض والتأتي لما يريد من الحوائج وروي هذا من ابن عباس وقتادة ومجاهد وعكرمة والضحاك ولعل المراد نجمعها ونحن قادرون على التسوية وقت الجمع فالكلام يفيد المبالغة السابقة لكن من وجه آخر وهو أنه سبحانه إذا قدر على إعادته على وجه يتضمن تبديل بعض الأجزاء فعلى الاحتذاء بالمثال الأول في جميعه أقدر وأبو حيان حكى هذا المعنى عن الجمهور لكن قيد التسوية فيه بكونها في الدنيا وقال أن في الكلام عليه توعدا ثم تعقب ذلك بأنه خلاف الظاهر المقصود من سوق الكلام والأمر كما قال لو كان كما فعل فلا تغفل ولا يخفى أن في الإتيان بلا أولا وحذف جواب القسم والإتيان بقوله سبحانه: {أيحسب} ورعاية أسلوب:
وثناياك أنها اغريض

في القسم بيوم البعث والمبعوث فيه ثم إيثار لفظ الحسبان والإتيان بهمزة الإنكار مسندا إلى الجنس وبحرف الإيجاب والحال بعدها من المبالغات في تحقيق المطلوب وتفخيمه وتهجين المعرض عن الاستعداد له ما تبهر عجائبه ثم الحسن كل الحسن في ضمن حرف الإضراب في قوله سبحانه: {بلْ يريد الإنسان ليفجر أمامهُ} وهو عطف على {أيحسب} جيء للإضراب عن إنكار الحسبان إلى الإخبار عن حال الإنسان الحاسب بما هو أدخل في اللوم والتوبيخ من الأول كأنه قيل دع تعنيفه فإنه أشط من ذلك وأنى يرتدع وهو يريد ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات وفيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه أو هو عطف على {يحسب} منسحبا عليه الاستفهام أو على أيحسب مقدرا فيه ذلك أي بل أريد جيء به زيادة إنكار في إرادته هذه وتنبيها على أنها أفظع من الأول للدلالة على أن ذلك الحسبان بمجرده إرادة الفجور كما نقول في تهديد جمع عاثوا في البلد أيحسبون أن لا يدخل الأمير بل يريدون أن يتملكوا فيه لم تقل هذا إلا وأنت مترق في الإنكار منزل عبثهم منزلة إرادة التملك وعدم العبء بمكان الأمير وإلى هذين الوجهين أشار جار الله على ما قرر في (الكشف) والوجه الأول أبلغ لأن هذا على الترقي والأول إضراب عن الإنكار وإيهام أن الأمر أطم من ذلك وأطم وفيهما إيماء إلى أن ذلك الإنسان عالم بوقوع الحشر ولكنه متغاب واعتبر الدوام في ليفجر لأنه خبر عن حال الفاجر بأنه يريد ليفجر في المستقبل على أن حسبانه وإرادته هما عين الفجور وقيل لأن أمامه ظرف مكان استعير هنا للزمان المستقبل فيفيد الاستمرار وفي إعادة المظهر ثانيا ما لا يخفى من التهديد والنعي على قبيح ما ارتكبه وأن الإنسانية تأبى هذا الحسبان والإرادة وعود ضمير أمامه على هذا المظهر هو الأظهر وعن ابن عباس ما يقتضي عوده على يوم القيامة والأول هو الذي يقتضيه كلام كثير من السلف لكنه ظاهر في عموم الفجور قال مجاهد والحسن وعكرمة وابن جبير والضحاك والسدي في الآية أن الإنسان إنما يريد شهواته ومعاصيه ليمضي فيها أبدا قدما راكبا رأسه ومطيعا أمله ومسوفا لتوبته وهو حسن لا يأبى ذلك الإضراب وفيه إشارة إلى أن مفعول {يريد} محذوف دل عليه {ليفجر} وقال بعضهم هو منزل منزلة اللام ومصدره مقدر بلام الاستغراق أي يوقع جميع إرادته ليفجر وعن الخليل وسيبويه ومن تبعهما في مثله أن الفعل مقدر بمصدر مرفوع بالابتداء وليفعل خبر فالتقدير هنا بل إرادة الإنسان كائنة ليفجر.
{يسْئلُ} سؤال استهزاء {أيّان يوْمُ القيامة} أي متى يكون والجملة قيل حال وقيل تفسير {ليفجر} وقيل بدل منه واختار المحققون أنه استئناف بياني جيء به تعليلا لإرادة الدوام على الفجور إذ هو في معنى لأنه أنكر البعث واستهزأ به وفيه أن من أنكر البعث لا محالة يرتكب أشد الفجور وطرف من قوله تعالى: {هيهات هيهات لما توعدون إن هي إلا حياتنا الدنيا}. اهـ.